تعد طريقة الاستقصاء من أقدم طرائق التعليم والتعلم، وقد كان الفيلسوف اليوناني سقراط ( 470-399 ق.م) أول من استخدمها كطريقة تدريس. وقد استخدم سقراط الأسلوب الاستقصائي في التعليم من منطلق اعترافه بالشخص الذي يحاوره. فهو يرى أن كل إنسان يمتلك معارف معينة في مجالات الحياة المختلفة، لكن قد تكون هذه المعارف غير مكتملة، أو مشوشة ، أو خاطئة ، ويعتقد بأن دوره كمعلم يكمن في تصحيح هذه المعلومات أو استكمالها وإضافة معرفة جديدة إليها. ويعد السؤال والجواب وسيلته الرئيسة لإكساب تلاميذه المعارف. وكان يوجه أسئلته بصورة تستفز محدثيه للتعبير عن ما لديهم من معلومات، ويواصل إثارة الأسئلة، ويشجع محدثيه للإجابة عنها، ويوجههم إلى مصادر التعلم المناسبة بما يحقق اكتشاف المتعلمين للمعلومات بأنفسهم. بمعنى آخر يعمل سقراط من خلال الأسئلة على إثارة تفكير تلاميذه في الاتجاه الذي يريده، ويوجههم لمعرفة جوانب الضعف والقصور في معارفهم، ويعمل من خلال السؤال والجواب، إلى قيادتهم لاكتساب المعارف. أي انه يدفعهم من خلال الأسئلة ، وبالاعتماد على خبراتهم الذاتية، إلى اكتشاف أو استنتاج معارف جديدة. ولذلك فقد سميت طريقة سقراط في المحادثة، بطريقة الاستنتاج أو طريقة الاكتشاف(Heuristic).
علاقة الاكتشاف بالاستقصاء:
ما المقصود بالاكتشاف وما المقصود بالاستقصاء؟ وما الفرق بينهما؟
يساوي الكثيرون بين مفهومي الاكتشاف والاستقصاء ويتعاملون معهما كمصطلحين مترادفين، بينما يميز البعض الآخر بينهما باعتبارهما مفهومين مختلفين.
تعريف الاكتشاف
يعّرف الاكتشاف بأنه العمليات العقلية المستخدمة في التأمل واكتشاف المفاهيم والمبادئ واستيعابها. ويتحقق الاكتشاف باستخدام عدد من العمليات مثل:
الملاحظة.طرح الأسئلة. التصنيف. القياس. التنبؤ. الوصف. التجريد. المقارنة. التصنيف. الاستدلال. عرض النتائج. التعميم. التطبيق وغيرها.
تعريف الاستقصاء
يعّرف الاستقصاء بأنه طريقة تفكير أو عملية عامة يسعى من خلالها الإنسان إلى المعرفة أو الاستيعاب. وإضافة إلى هذا المفهوم العام للاستقصاء يميز البعض بين الاستقصاء العام والاستقصاء العلمي. ويعرف الاستقصاء العلمي على انه نشاط منظم واستقصائي الغرض منه الكشف عن علاقات بين الأشياء والأحداث ووصفها. كما يعّرف الاستقصاء العلمي أيضا على أنه " القدرة على استقصاء منظم يدمج قدرات التفكير الاستقرائي بعد أن اكتسب الشخص معرفة نقدية وواسعة عن موضوع محدد من خلال عمليات التعلم المنهجي والمنظم".
كما يعّرف أيضا بأنه إحدى طرائق التعلم التي تتطلب التحري عن العالم الطبيعي أو المادي، والذي يقود إلى إثارة أسئلة والتوصل إلى اكتشافات في مجرى البحث عن فهم جديد. وفيما يتعلق بتدريس العلوم ينبغي فهم الاستقصاء باعتباره طريقة للقيام بالبحث العلمي.
فالاستقصاء إذن هو القدرة على تحديد المشكلات واستقصائها، تكوين الفروض، تصميم التجارب، جمع البيانات، واستخلاص الاستنتاجات حولها. ويشمل الاستقصاء على العمليات الآتية:
§ تحديد المشكلة.تكوين الفروض، تصميم الطرق الاستقصائية، اختبار الفروض (مثال: إجراء تجارب)، تعميم النتائج.
§ وتطوير اتجاهات معينة (مثل: الفضول، تفتح الذهن، احترام النماذج النظرية وتقديرها، تحمل المسئولية، اتخاذ القرار وتقييم النتائج).
لذلك يمكن الاستنتاج من خلال التعريفات السابقة للاكتشاف والاستقصاء بأن الاكتشاف يعتمد بصورة أساسية على استخدام العمليات العقلية كالملاحظة وغيرها، بينما يعتمد الاستقصاء على استخدام العمليات العقلية والعملية معا. ومعنى هذا وجود علاقة بين الاكتشاف والاستقصاء وهي أن تعلم عمليات الاكتشاف متطلب ضروري لممارسة النشاط الاستقصائي. وإذا ما راجعنا مراحل النمو العقلي لجانيه سنجد بأن تطوير عمليات الاكتشاف ينبغي أن تتم في الصفوف الأولى من التعليم الأساسي بينما يستطيع الطلبة ممارسة عمليات الاستقصاء باعتبارها عمليات مجردة في الصفوف العليا من التعليم الأساس وبصورة أساسية في التعليم الثانوي وما بعده.
تتميز طريقة الاستقصاء بميزات عديدة منها(عايش زيتون) :
1. يصبح الفرد المتعلم محوراً أساسياً في عمليتي التعليم والتعلم في العلوم.
2. تنمي عند الطلبة عمليات (مهارات) الاستقصاء والاكتشاف والاستفسار العلمي (عمليات العلم) كما في الملاحظة، والقياس ، والتصنيف ، والتفسير ، والاستدلال … والتجريب
3. تنمي التفكير العلمي لدى الطلبة ، إذ أنها تتطلب تهيئة مواقف تعلمية (مشكلة) أو مفتوحة النهاية تستلزم استخدام طرق العلم، وبخاصة الطريقة العلمية، في البحث والتفكير وإجراء التجارب العلمية.
4. تهتم في تنمية المهارات الفكرية والعمليات العقلية لدى الطالب .
5. تؤكد على استمرارية التعلم الذاتي ودافعية الطالب نحو التعلم، مما يعني أن العملية التعليمية – التعلمية لا تنتهي بتعلم الموضوع داخل المدرسة فقط، إنما يمكن أن تمتد خارج المدرسة أيضاً .
6. تهتم ببناء الفرد من حيث ثقته واعتماده على النفس، وشعوره بالإنجاز، وزيادة مستوى طموحه، وتطوير مواهبه.
7. تنمي مفهوم الذات، وتزيد من مستوى التوقعات لدى الطالب من حيث مدى استطاعته لتحقيق المهارات العلمية التي يكلف بها ؛ وتنمي المواهب والقدرات الأخرى كما في قدرات : التخطيط والتنظيم والتفاهم وتحمل المسؤولية والحياة الاجتماعية .
8. تزيد نشاط الطالب وحماسه تجاه عمليتي التعلم والتعليم في العلوم مما يعني أنه تتطور لديه القدرة على تكوين المعرفة العلمية (المفاهيم والمبادئ …) وتمثلها وبالتالي جعلها جزءاً من نظامه المعرفي.
9. تؤكد على الأهداف والغايات العامة الإستراتيجية الأخرى لتدريس العلوم كما في تنمية الاتجاهات والميول العلمية وتقدير جهود العلماء.
وتختلف طريقة الاستقصاء الحديثة المستخدمة في التدريس عن طريقة سقراط في تنوع إستراتيجياتها، إذ لم يعتمد استخدامها على أسلوب الحوار المباشر بين المعلم والتلميذ، كما كان يفعل سقراط، بل يمكن أن يكون الحوار بين المعلم وجميع الطلبة في الصف، أو بين الطلبة أنفسهم.
لذلك يتم التمييز بين ثلاثة أنواع من الاستقصاء وهي: الاستقصاء الموجه المنخفض، الاستقصاء الموجه المرتفع والاستقصاء الحر.
يتم الحوار في الاستقصاء الموجه بأسلوبين مختلفين، أحدهما متمركز كلية في المعلم ويسمى استقصاء موجه منخفض، والآخر متمركز في المعلم والطلبة معا ويسمى استقصاء موجه مرتفع. ويكون دور المعلم لذلك هو السائد في الاستقصاء الموجه المنخفض والمرتفع.
ويتميز الاستقصاء الموجه المنخفض بسيادة دور المعلم فيه. فهو الذي يخطط لهدف ومحتوى الاستقصاء، وهو الذي يقوده بصورة مباشرة. ولذلك فإن المعلم طرفاً ثابتاً في كل حوار ، بينما الطرف الثاني في الحوار ، وهو الطالب يتغير بصورة مستمرة ، فيسأل المعلم سؤالاً ، فيجيب عنه تلميذ ما، ثم يسأل سؤالاً آخر، ويجيب عنه تلميذ آخر وهكذا، ولكن لا يوجد حوار بين الطلبة أنفسهم، كما لا يجوز لتلميذ آخر أن يستكمل إجابة زميله. ويشبّه البعض أسلوب الاستقصاء الموجه المنخفض بالأسلوب الذي تلعب به كرة المضرب أو الطاولة.
ولا يختلف الاستقصاء الموجه المرتفع عن الاستقصاء الموجه المنخفض كثيراً إلا فيما يتعلق بعلاقة المعلم والطلبة فيه. ففي الاستقصاء الموجه المنخفض تكون العلاقة بين المعلم وتلميذ واحد، أما في الاستقصاء الموجه المرتفع فإنه يمكن لأكثر من تلميذ المساهمة في الإجابة عن سؤال المعلم. فعندما يوجه المعلم سؤالا إلى أحد الطلبة ولا يستطيع الإجابة عنه أو عندما تكون إجابته عن السؤال غير مكتملة، فإن المعلم يسمح لتلميذ آخر باستكمالها وإذا أخطأ هذا الطالب أو لم يتمكن من استكمالها فإن المعلم يسمح لتلميذ ثالث ورابع باستكمالها حتى يتم التوصل إلى النتيجة المرجوة. ومعنى ذلك إنه يسمح لأكثر من تلميذ للاشتراك في الإجابة عن سؤال المعلم، إلا أنه لا يوجد مجال لأن يتحدث الطلبة مع بعضهم البعض، كأن يعترض أحدهم على إجابة زميله مثلاً أو ينتقدها أو يوجه له سؤالاً حولها أو يطلب منه التعليل والتفسير وتبرير آرائه .. الخ فذلك من مسئولية المعلم وحده.
يختلف الاستقصاء الحر عن الاستقصاء الموجه في الدور الذي يلعبه المعلم في كل منهما. ففي حين يكون للمعلم دوراً أساسياً في الاستقصاء الموجه، فإن دوره في الاستقصاء الحر يقتصر على طرح المشكلة ويكون الحوار والنقاش بين الطلبة أنفسهم، فهم الذين يكونون الفروض، ويجمعون المعلومات ويتحققون من صحة الفروض والتوصل إلى النتائج وحل المشكلة.
ويكون دور المعلم في الاستقصاء الحر تحديد هدف وموضوع الدرس، ولا يتدخل في الحوار والنقاش أو في توجيه خطة سيره إلا إذا اتخذ نقاش الطلبة اتجاهاًً مغايراً لأهداف المهمة، أو عندما لا يتمكنوا من مواصلة النقاش فيما بينهم واستخلاص النتائج المرغوبة. ويكون تدخل المعلم من خلال حافز يثير ويوجه به نشاطهم الذهني، ويحفزهم لحل المشكلة واستخلاص النتائج.
فيما يلي عدد من الإرشادات المساعدة في تطوير فاعلية الاستقصاء:
1. أن يختار المعلم ويهيئ الفرص التعليمية للبحث والاكتشاف الملائمة لطبيعة الموضوع الدراسي المراد دراسته والتي يمكن أن تساعد الطلبة على التفكير المتعدد في المشكلات الدراسية ومن ثم يكتشفون الحقائق المتعلقة بالمشكلة والتي قد تساعدهم على دراسة مواضيع دراسية أخرى.
2. أن يبدأ المعلم بتهيئة فرص تعليمية للبحث مبسطة وبعد أن يألف الطلبة ذلك الأسلوب يتدرج معهم المعلم في اختيار موضوعات أكثر صعوبة وعمقاً.
3. ينبغي على المعلم أن يجهز الأدوات والمواد التعليمية والمصادر والمراجع التي قد تحتاجها الدراسة البحثية.
4. حيث أن الهدف من الدراسة البحثية هو تنمية وتدريب الطلبة على استخدام ما لديهم من مهارات لذلك يجب على المعلم أن يهيئ الفرص التعليمية المناسبة لتنمية تلك المهارات واستخدامها.
5. إعداد خطة متأملة للأنشطة التعليمية المناسبة مع وضع قائمة بتلك الأنشطة وبيان تسلسلها طبقاً لطبيعة الدراسة البحثية والموضوع الدراسي.
6. طبيعة الدراسة البحثية تستدعي أن يكون المعلم مرناً في قيادة طلبته وإعطائهم الحرية المناسبة للاكتشاف بأنفسهم وهذا لا يعني أن يكون لدى المعلم تصور عام عن ما سوف يصل إليه كل طالب من إنجاز عند نهاية العمل.
جميع الحقوق محفوظة
د. عبد الوهاب عوض كويران: طرائق تدريس العلوم. كلية التربية جامعة عدن 2005- 2006